التسميات

10 نوفمبر 2007

إعادة اكتشاف دور الأستاذ حيدرة

الصورة: الراحل محمد أحمد حيدرة. في الحديدة 1970.
* محمد الحكيمي
كثيراً ما يكمن النبأ العظيم في الصمت، خصوصاً عندما نبادر في الإفصاح عن التاريخ الخفي للرجال، وهو الأمر الذي تناوله الباحث الأستاذ محمد ناجي أحمد في صحيفة "الشارع" (العدد 20) حمل عنوان: "محمد أحمد حيدرة.. رائداً تربوياً ومسرحياً".

13 يوليو 2007

فـي كـون «خـُـزيمة» فـتاة وليست مقبرة..!


* مقبرة خزيمة بالعاصمة صنعاء. خاص
*محمد الحكيمي
في صنعاء لا يحب الناس عادة ًالحديث عن «خـُزيمة» كونها المقبرة الشهيرة التي تذكرهم بالموت، بيد أنهم لا يعلمون بأنها كانت قديماً، قيمة حية أمدت الناس بالحياة.. وهنا تكمن مفارقة رائعة مسكوت عنها في التاريخ اليمني.
في الثلاثينيات من القرن العشرين، كانت «خزيمة» هي القصة الأكثر إثارة التي تتناقلها مذكرات الأجانب الفرنسيين والروس، الذين تواجدوا في صنعاء آنذاك ضمن البعثات التي كانت تأتي للعمل في اليمن، ومنهم الأطباء والمهندسون وغيرهم، كان أغلبهم يشير إلى مخاوفه من هذا البلد المغلق والمعزول عن العالم. ولعل كتاباتهم التي ترجم منها القليل تفصح عن ذلك بوضوح تام.
يبدو القاسم المشترك في تدوين تلك المذكرات ، هو الاجماع الذي يشير بنوع من الإعجاب بتفاصيل هذا البلد العريق ..ولعل هذه التفاصيل لم تكن الطبيعة والبيئة سرها فحسب، بل الناس بقصصهم وحكاياتهم وقلوبهم المدهشة.
لقد كانت «خزيمة» إحدى أروع تلك التفاصيل.
من بين أطباء البعثات الأجنبية التي كان يتقدمها الطبيب الألماني «هانز» وهو مؤلف كتاب «اليمن من الباب الخلفي» كانت الطبيبة الفرنسية «كلوديا فايان» أكثر من ذكر بدهشة وإعجاب قصص تلك التفاصيل في كتابها الشهير «كنت طبيبة في اليمن» والذي أصدرته بالفرنسية وترجم للانجليزية والعربية، ترجمه الأستاذ محسن العيني (رئيس الحكومة اليمنية الأسبق)عندما التقاها في فرنسا بعد مغادرتها من اليمن.
تشير الدكتورة كلوديا إلى جملة من أروع القصص التي استحقت تدوينها عن اليمن. وشخصياً كانت الأروع قصة «خزيمة» وهي شابة مسيحية رائعة الجمال كانت تمكث في صنعاء مع أبيها تاجر البهارات المنتمي لإحدى الأسر التركية المستوطنة في اليمن.
طبقاً لفايان ، كانت «خزيمة» تحب صنعاء، عاشت منذ صغرها حتى أزهى فترات المراهقة مع أبيها وعامل يمني كان يقوم على خدمتهما.
كانت «خزيمة» تلتقي مع صديقاتها من الفتيات في عصر كل يوم بصنعاء، يقضين وقتهن بصورة بهجة، وهن يتناولن دفاً ويقومن بالرقص والغناء والاستمتاع بالحياة الممكنة.
وحينما تقدم والد خزيمة بالسن كثيراً، قرر مغادرة اليمن؛ كونه لا يمكن أن يترك ابنته وحيدة في صنعاء إذا ما داهمه الموت فجأة. غادر الرجل من صنعاء عائداً إلى تركيا، وغادرت معه خزيمة وهي حزينة لفراق المدينة التي نشأت فيها واحتضنت كل ذكرياتها.
بعد ذلك ،كانت تشير الروايات والحكاوي القديمة أيضاً إلى أن أخبار التاجر التركي وابنته اختفت بعد سفرهما لسنوات طويلة.
لكن القصة التي روتها فايان، مع مصدر آخر، تستحق الذكر ، تقول الحكاية : أن شيخاً عُرف عنه الصدق ويجمع عليه الناس، رأى في منامه ذات يوم فتاة تناديه وتبكي وفي ويدها رسالة أوصته بأن يوصلها للإمام. كان الحلم قوياً ويشير على الشيخ باتجاه منطقة ما خارج صنعاء التي كانت عبارة عن مدينة مسورة بسور من الطين.
لم يتردد الشيخ في الافصاح عن القصة، أخبر الشيخ الإمام أن الفتاة التي تراوده في الحلم كانت تشبه تلك الفتاة (خزيمة) التي غادرت منذ 60سنة.
وتقول فايان إن الإمام خرج بجنوده مع الشيخ الذي دلهم على المكان، ثم حفر الجنود حينها في مكان الموقع الذي تقف فيه شجرة كافور ضخمة ، فوجدوا جثة امرأة دفنت مع مجموعة من المجوهرات الثمينة، ووجدوا أيضاً رسالة في صندوق ذهب كتب بداخلها وصية تفيد بأن تبنى بيوت ومساكن للفقراء من المسلمين واليهود بهذه الأموال، ومدون في الوصية أن هذه الوصية هي وصية المرحومة (خزيمة) التي أوصت بأن تدفن في صنعاء مع مجوهراتها.
وكان أن أصدر الامام أمراً بوقف الارض التي دفنت بها (خزيمة) وجعلها مقبرة بأسمها وهي ما تزال كذلك حتى اليوم.

ربما تكون القصة هذه هي سبب التسمية لمقبرة خزيمة. ولربما تكون الحادثة من حكايات الخرافة، غير أن مصادر في مذكرات ورسائل الأجانب أشارت لتلك الواقعة بوضوح كون الناس ظلوا يرددونها لسنوات بعد أن شهدوا بناء بعض البيوت في المدينة.

بالنسبة لي: انحاز تماماً لتصديق القصة مثلما روتها الطبيبة كلوديا فايان.

20 يونيو 2007

الطفل الذي تصعُب هزيمته !!

* محمد الحكيمي
يحاول «عبدالعزيز عبدالله» أن يكون رجلاً بالفعل، غير أنه قد أصبح ما أراد دون أن يعلم بذلك.
عبدالعزيز هو طفل لم يتجاوز الثانية عشرة من العمر، لم يُعد يحب أكل الآيسكريم أو اللعب بدراجة هوائية، لأنه منشغل الآن بدور رجل يكافح من أجل لقمة العيش، بميزان فقط، وابتسامة.
الحياة قاسية، بالنسبة إلى طفل أعاقته الحاجة عن تعدي صفه السادس، وهو الآن يشعر بحسرة لتخلفه عن زملائه، وعن النشيد الوطني في طابور المدرسة.
يستيقظ هذا الطفل ليعمل صباح كل يوم من أجل تأمين ثمن الدواء لوالده المعاق الذي يمكث في البيت منذ سنوات، وفي كل يوم يعمل بمشقة ليحصل على ثلاثمائة ريال فقط في النهاية كمحصول لتعب لا يتحمله طفل. وهو فرح بذلك.
في وسط شارع الزبيري بالعاصمة صنعاء، يقف عبدالعزيز حاملاً ابتسامته البريئة وميزانه الذي يزن الناس لقاء عشرة ريالات لكل عملية وزن.
أمام مطعم مانهاتن بالتحديد، يعمل عبدالعزيز وهو الأخ الأصغر لأخوة ثمانية، ثلاثة ذكور وخمس إناث، معظمهم حرموا من التعليم بسبب إعاقة والدهم الذي ينفق عليه أبناؤه الثلاثة.
كل زبائن المطعم تقريباً يحبون عبدالعزيز، خصوصاً وقت الظهر يكون بهياً ورائعاً عندما تخجلك ابتسامة بريئة لطفولة سُرقت باكراً ولم يكترث لها أحد.
تخيلوا أن صبياً صغيراً حُرم من السعادة، ولم يذق من العيش غير الظلم، فقرر مواجهة الحياة بميزان.
لا أدري بالضبط ما الذي جعل عبدالعزيز يختار ميزاناً بالتحديد كوظيفة، لربما يؤمن في قرارة نفسه بالعدالة التي قد تجيء ذات يوم، وهو إصرار فريد لطفل مشرق الوجه تشعر عند رؤيته لأول مرة بأنك تحتاج لعالم نظيف كروحه التي تكره التسول.
ذات يوم التقيته في المكان ذاته، كان حزيناً حينها ومضطرباً نوعاً ما. عندما سألته قال لي: «تعطل الميزان وأنا أشعر أني أغش الناس لأن شوكته انحرفت وصار يزيد أو ينقص بالوزن».
وعندما سألته عن السبب الذي جعله ينحرف، قال لي: «الرجال السِمان»! هذا الطفل يجسد حقيقة قوية أضحت سلوكاً رائعاً يسير على قدمين.
قد نستفيد من القيم الجمالية التي تتواجد بندرة في المجتمع، لكن الأمر يكون مؤثراً جداً عندما يتعلق بطفولة ناشئة أُجبرت على العيش في الهامش.
ماذا لو كان «عبدالعزيز» في المدرسة الآن، يواصل تعليمه ويكبر كما كان يطمح لنفسه أن يصبح معلماً؟!! أعتقد أن البلد سيكون قد حظي بمدرسة أخلاق نظيفة قادرة على إنتاج أجيال نراهن عليها أمام العالم بأسره.
الطفولة المشردة سرعان ما تلوثها البيئة، وينشب الفساد مخالبه في جوفها حتى تصبح مسخاً مشوهاً يُصعب الاستفادة منه.
لكن عبدالعزيز يملك القدرة على المقاومة دون تعثر، ويملك القدرة أيضاً على معالجة المتاعب بالصبر، وهو أمرُ قلما يحدث في عالم الرجال.
لم تستطع قساوة الحياة أن تنال منه أو تقوى على تشويهه، ذلك أن العصفور الذي يسكن فيه لم يزل يغني ليجعل الحياة ممكنة، مهما مر الزمن ببطء أو تعثر سيمنحك عبدالعزيز درساً بالغ الأهمية في الكفاح وفي الاخلاق، ولعل الأهم في التخطيط. قبل اسبوعين أخبرني وهو مسرور للغاية أنه اشترى ميزاناً آخر لأن الأول لا يتحمل سوى الوزن الخفيف، أما الميزان الجديد سيكون «للسّمان».
تعلمت منه حينها، أن الواحد لا يقبل القسمة على اثنين.
لو مر أحدكم في رصيف عبدالعزيز، سيكتشف أنه يشهر في العيون فوران الزهر، وكلما يقف على الكرسي ستجد أن أوله طفل، وآخره جبل من الأمنيات، لربما ستجد أيضاً أن العدالة، نبتة قد تتأخر في النمو، وهو يقوم بالتبشير بها بميزانه، دون أن يعلم هو بذلك.
لربما أيضاً سيجبرك هذا الطفل على الانحناء له، خجلاً لا أكثر، وهو يقوم بدور يفوق شرطي المرور، كونه يحفظ رقم وزنك لمجرد أن تزن نفسك مرتين فقط.
ما أحوجنا إلى عبدالعزيز، كطفل، وكقيمة، وكإنسان، وإلى ميزانه كابتكار! ما أحوجنا إلى ابتسامته، وإلى صدقه، إلى تفكيره، وإلى شوكته التي لا تنكسر!
صديقي عبدالعزيز، لو اعتمرتُ قبعة ذات يوم، لن أخلعها إلا لأجلك.
ــــــــــــــــــــــــ
صحيفة النداء - الأربعاء - 20 يونيو 2007 .