التسميات

26 أكتوبر 2010

كـيـان عـالـق في محـنة

نقيب الصحفيين اليمنيين يسلم صالح درع النقابة | الصورة: وكالة سبأ.
محمد الحكيمي

يبدو الرئيس علي عبد الله صالح اليوم ، في صورة لطالما احترس من شيوعها الصحفيون ، وهي صورة أقرب ما تجسد هزيمة الأخير، في حين أنها لا تمنح الأول انتصاراً حقيقياً بالقدر الذي قد يتخيله الانطباع السطحي على الاطلاق.
في 13 يونيو الفائت ، قدمت نقابة الصحفيين اليمنيين أغلى ما تملكه، للرئيس صالح ، في نفس اللحظة التي إلتصق فيها اسم الأخير ، بلقب أكبر صائدي الصحافة في العالم. وبدا هذا الموقف وكأن بمقدوره نقل فكرة جديدة عن التسامح ، لمجرد أن يشاهد الجميع الضحية يقوم برد الاعتبارلجلاده.


كان الحدث..بمثابة صدمة للمدافع العالمي عن حرية الصحافة ، وهو يرى مجلس نقابة الصحفيين اليمنيين يقف في صورة تذكارية التقطت مع الرئيس أثناء تسلمه درع النقابة التكريمي ، تحت مبرر: تقدير دور الرئيس في دعم ورعاية الصحافة والصحفيين.وتزامن هذا كله مع مرور 20 عاماً على توحيد كيان النقابة في شطري البلاد.

لم يستدع الصحفيون مثلاً .. تحسس الاتحاد الدولي للصحفيين ومنظمة مراسلون بلا حدود، جراء ذلك ، وانهم قد يشعرون بالخذلان من النقابة التي لطالما أنبروا للدفاع عنها بالاحتجاج في كل مرة يطال أحد منتسبيها انتهاك ما من قبل أجهزة الأمن.

ويبدو أن النقابة لم تستدع أيضاً نظرة الرئيس الشخصية لحدود ما قامت به ، لكونها اعتقدت ان تكريم رئيس البلاد سيدخل الصحافة مرحلة تصالح جديدة مع السلطة ، وسيحرج الأخيرة على احترام عمل الصحافة ، والتعامل معها من موقع الشريك.

بيد أن افتراضاً كهذا تبدد تماماً ، كون التوقعات لا تورث سؤى الخيبات ، فضلاً عن أن التوقع بحد ذاته لا يصلح كمشروع يعول عليه.



كانت ضريبة الاقتراب من القصر الجمهوري مؤلمة ، ومحرجة جداً للنقابة التي لطالما تباهت بوصف " أقوى النقابات التي تخشاها السلطة في اليمن ". كانت الضريبة أن نجح الحاكم في تحويل مُكرميه من طالبي عدل وإنصاف إلى طالبي عفو.. وهذه خسارة لا يمكن تفاديها.

لنقل أن نقابة الصحفيين كانت تأخذ الأمر على مبدأ حسن الظن ، وأنها شعرت بالطمأنينة ، وهي تسمع كلمات الرئيس في ذلك اليوم وهو يؤكد :" بان الصحافة شريك فاعل في المسيرة الديمقراطية وصنع التحولات في الوطن , و ان الديمقراطية وحرية الراي والتعبير خيار لا رجعة عنه ".

غير أن الثمن كان فادحاً للغاية ، أكبر مما كان الجميع يظن ، فثمن ذلك التكريم كان سريع السداد ، وحدث أن أعلن الرئيس التبرع بمبلغ 40 مليون ريال للنقابة ، وبدت القيمة قادرة لأن تقلب الأمر راساً على عقب ، فحولت من فعل تقدير الصحفيين لرئيس الدولة ، الى مكرمة رئاسية للصحفيين. وكلاهما بعدان يغيران من مستقبل الحقائق التي آلت اليوم من بعد ذلك التاريخ.

ماذا لو قلنا بأننا لم نكن قريبين جداً من فهم القناعة التاريخية بين عمل الصحافة و نظرة الرئيس لها. لكن فهم تلك القناعة لوحدها لا يكفي ،فكثيراً ما يبرر الرئيس الحقائق التي يقوم بنشرها الصحفيون باعتبارها " كلام جرائد" وهي نظرة دونية ، تبقي الصحافة في موقع منخفض على الدوام ،حُدد سلفاً في أجندة الخطاب الرسمي.

لندع هذا الأمر جانباً الآن .. فهو أمرُ مفروغ منه ، ولنقترب من ردة الفعل لذلك ، لدى أعضاء مجلس النقابة ، وتحديداً الذين عارضوا فكرة منح الرئيس الدرع ، فلعل قناعاتهم أقرب الى توقع ما سيؤول بصورة صائبة.

فمثلاً ..الزميل جمال أنعم ، رئيس لجنة الحريات بالنقابة.. كان من ضمن أربعة من أعضاء المجلس المعارضين لذلك التكريم ، لدرجة أنه لوح بتقديم استقالته احتجاجا على ذلك. قال أنعم : إنه ليس ضد الرئيس لكن من الخطورة أن يتحول هذا الأمر إلى موضوع فرز، معتبرا أن رعاية الرئيس لحفل يوم الصحافة اليمنية كان كافيا.

يتحدث أنعم بلغة رصينة ، يتعين على الرئيس الانصات لها : " حين يحرص الرئيس على بقاء صحافة قوية في الساحة ، فان هذا هو ما يمنح الرئيس قوة ، ويعزز من احترام البلد أمام العالم ".

اليوم .. سيخبرك أنعم بأن النقابة تمر بازمة حرجة للغاية ، تستدعي منها رد الاعتبار لما فقدته منذ ذلك التكريم ، و في اشارة ضمنية هامة : " كان الأجدر بالرئيس الاحتفاظ بالنقابة كخصم قوي ، بدلاً من تحويلها الى كيان ضعيف ، ومجرد من أدوات القوة ".

ما يريد الزميل أنعم قوله هو: " أن نعيش في حالة خصومة نقية ، أفضل بكثير من أن نعيش ضمن علاقة ملتبسة تضعنا دائماً موضع شك وريبة.،فلم يكن اعطاء الرئيس درع النقابة ، اعتراف بندية معلنة ، وإلا لما كان للتكريم أي معنى، وفي رأيي أن هذا الدرع عنى الكثير.واقل ماعناه توقفنا كصحفيين عن اعتبارالسلطة والرئيس على رأسها، كعدو للصحافة، وأننا في صدد علاقة من نوع خاص يملي شروطها، هذا التكريم، وهذا المنح المتبادل ".

ويقول أنعم : " نحن نعي كطرف مانح التبعات والأثمان، التي يوجبها هذا الدرع، ويعي الرئيس والسلطة ، أن استحقاقات عديدة ، تستتبع قبول هذا الدرع على مستوى التعامل وطبيعة النظرة وغيره .. نحن الصحفيون بدونا الخاسر الأكبر".



ما هو متعارف عليه أن التقدير حين يمنح لشخص ما ، يعني الثقة به ..ويعني تحمل المسئولية، وما حدث كان كافياً لأن يعرف الصحفيون حجم الاستخفاف الرئاسي بهم، فكل تلك الوعود التي تحدث عنها الرئيس من أراض ومنح علاجية وغيره ، سرعان ما تأكد أنها " مجرد كلام " قيل من باب الحاجة فقط لإكتمال الحفلة.

أكثر الأسئلة الشائعة اليوم لدى معظم صحفيي البلاد هي تلك التي تأتي على شاكلة : كيف يسترد الصحفيون كرامتهم المهدرة؟ الأمر الذي قاد الغالبية منهم بالمطالبة بسحب الدرع التكريمي من الرئيس للاحتفاظ بما تبقى من ماء الوجه، وهي مطالبة تأتي في سياق وجودي أكثر من كونه آني ، فبعيداً عن القضايا الأخيرة التي طالت البعض من حبس واخفاء قسري واختطاف وتعسف وتعذيب وغيره ، تبرز قضية عدم تقدير الرئيس المستمر لحرية الصحافة ، حتى بعد حصوله على درع الصحافة ذاتها.

فالصحفيون يرون ان منح الدرع يعني قيمة تقديرية عليا يفترض مقابلتها بنوع من الاحترام المتبادل ، بدلاً من التنكيل القائم ، في حين ان الرئيس فيما يبدو نظر للأمر باعتباره ضماً للنقابة تحت عباءة القصر الجمهوري. وهي نظرة تجعل من الطرف الآخر مغلوباً على أمره حد النكسة.

هل هذه هي النهاية .. لا فثمة تسويات عادلة تعيق من انتصار المنتقم ، فالسمعة الرديئة التي ذاع صيتها في أرجاء العالم ما تزال تزدهر، فمنذ أن سحبت منظمة مراسلون بلا حدود اسم الجماعات الاسلامية المتطرفة في اليمن من قائمتها هذا العام ، أدرجت عوضاً عنها اسم الرئيس علي عبدالله صالح لتمنحه لقب : أكثر صائدي حرية الصحافة. وهي سمعة عالمية لن يقوى على محوها درع محلي.

اذن..هذه السمعة السيئة التي أرُيد غسلها بماء وجه النقابة عبر درع تمخض عن لحظة حسابات انتهازية للطرفين ، تتجاوز الحاجة للحرية.

لكن المؤسف أن النقابة وقتها لم تضع في الحسبان ، ما يمكن أن تمُنى به من خسارات فادحة امام طرف يُجيد تبخيس كل ما يعرض له بسهولة ويسر.

صحيح أنه لن يجدي نفعاً تذكير الحكومة بواجباتها في احترام ودعم الحق في حرية التعبير المنصوص عليه في المادة التاسعة عشر (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي تعدُ اليمن إحدى الدول الموقعة عليه.

ولن يتغير شيء إن رفع الجميع يافطة ضخمة توضح بأن حرية الصحافة تعد الأداة الرئيسية للجمهور لمسائلة الحكومات. ربما يتطلب ذلك الأمر مع الحكومة اليمنية ، كونها لم تستوعب بعد بأن حرية الصحافة تعمل في المجتمعات الديمقراطية على تعزيز المسائلة والشفافية؛ كما تعمل أيضاً على مساعدة صانعي السياسات من أجل تعزيز التجاوب مع المشاكل الاجتماعية.

فما هو غائب كلياً عن الحكومة اليمنية هو أن حرية الصحافة هي التي تعمل على تعزيز ثقة المواطنين بها. ولو أنها تدرك ذلك ، لما تلذذت طيلة 2009، بممارسة الضغط لإغلاق قرابة عشرين صحيفة. ولا استمرت بتجريب كل الاعتداءات على الصحفيين.

ينبغي أن يكون شائعاً اليوم ، بإن إبقاء البلاد خالِية من صحافةٍ حرة ، يجعل من حكومتها ، حكومة عاجزة ليس إلا ، لا تستطيع تفهم قناعات الناس، ولن يكون بمقدورها الاستجابة للاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لهم.

ولعل ما يحدث أشبه بحملة تطويع سمجة للصحافة ، لكن ذلك لا يمكن تحقيقه ببساطة، فطبقاً لمؤشر حرية الصحافة الصادر عن منظمة "مراسلون بلا حدود" ،احتلت اليمن قاع القائمة السنوية هذا العام، وانضمت بذلك إلى خانة الدول التي يهيمن على حكوماتها حزب واحد.

هذا هو المنجز الحكومي الذي تم حصده نتيجة قمع الصحافة ومعادتها ، قاد اليمن لأن تنضم مطلع هذا الشهر الى رواندا وسوريا و بورما وكوريا الشمالية كأكثر الدول قمعا للصحفيين في العالم.وهو ما يعني تصدر اسم اليمن عالياً ضمن قائمة أسوأ عشر دول قمعاً لحرية الصحافة في العالم للعام 2010.

ما من خيار أمام الصحفيين في اليمن غير..المضي قدماً في طريق طويل ..طويل للوصول الى الحرية المنشودة ، فربما قد يساعد ذلك على تجاوز حقيقة : أننا عالقون في محنة ذلك الدرع على ما عداه وحسب.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق