التسميات

05 مايو 2015

إذا كان الاقتصاد هو الحل فالسياسة هي المشكلة

الرئيس الحمدي يفتتح مشروع تنموي بالحديدة.1976. الصورة: خاص
محمد الحكيمي
شهد الاقتصاد اليمني خلال حقبة السبعينات، أفضل سنوات النمو منذ قيام "الجمهورية العربية اليمنية" وحتى الان. فبعد مرور 10 سنوات من ثورة 1962، أدت جهود الإعمار الهائلة التي قام بها المجتمع ومعه الدولة، إلى نمو اقتصادي قوي، لم تحظ به اليمن من قبل ولا من بعد.


حدث ذلك في 3 سنوات و4 أشهر ونيف فقط، في عهد الرئيس اليمني الراحل إبراهيم الحمدي. الذي برعَ في تحويل السياسة إلى اقتصاد مكثف، وتأسست على يديه في منتصف السبعينات، دولة يمنية صاعدة ومستقرة، انطلقت من نقطة الصفر.
الغالبية من اليمنيين العاديين -شمالاً وجنوباً- يجمعون على الحمدي ويشيدون به، لكن القلة منهم يعرف منجزات الرجل في مضمار التنمية. ذلك أن الحديث عنه يتطلب إثبات مادي بالوثائق والمصادر والمعلومات. وهو الأمر الذي كشفت عن مجلة "الاقتصاد الآن" كسبق صحفي غير مسبوق في الصحافة اليمنية، في عددها الأول الصادر في مارس 2015.
فالرؤية الاقتصادية والتنموية التي أدار بها الحمدي البلاد. كانت تحمل مشروع وطني طموح لبناء دولة حقيقة، وهي رؤية جديرة تعكس للمرء عن علاقة السياسة الوطيدة بالاقتصاد.
ففي العالم كله، يظل القرار السياسي هو من يرسم الطريق أمام التنمية الاقتصادية، وسط كل الاختبارات الصعبة والبدائل المحدودة، وهو ما أدركته اليمن في منتصف السبعينات.
يقول المؤرخ "بول دريش" في كتابه "تاريخ اليمن الحديث" الصادر سنة 2000، عن جامعة كامبريدج بالمملكة المتحدة، أن "الرئيس الحمدي يعتبر واحدا من أكثر قادة اليمن السياسيين الذين لعبوا دوراً ديناميكيا وتقدمياً، منذ قيام الثورة اليمنية في العام 1962 ".
وفي مقارنة تاريخية فريدة، كتب "دريش": "يمكن مقارنة الدور الذي قام به الحمدي في المعنى والأهمية بدور الرئيس الأميركي جون كينيدي، برغم ما يمثله كينيدي في التاريخ السياسي الأمريكي".
هذه شهادة لافتة للغاية، عن قائد رؤيوي ورئيس جدير بالفقدان. كان يحمل مشروعاً حقيقياً لتأسيس دولة عصرية، أرادها كواحدة من الدول الصناعية في العالم.
تخيلوا أن الناتج المحلي الإجمالي (لشمال اليمن) حقق معدل نمو بلغ 7% سنويا، خلال فترة تنفيذ البرنامج الإنمائي الثلاثي الذي انطلق من العام 1974 الى 1976، في حين بلغ النمو نسبة 6% خلال فترة تنفيذ الخطة الخمسية الأولى من 1976 الى 1981. بحسب ما أورده تقرير "الإحصاء السنوي 1981" الصادر عن رئاسة مجلس الوزراء في الجمهورية العربية اليمنية.
انظروا الى بعض المشاريع التي كان الحمدي قد اتم توقيع الاتفاقيات لها وشارف البدء بها في نهاية العام 1977: مصنع لتجميع السيارات ومصانع للإسمنت وللقطن والغزل والنسيج، وصناعات متوسطة وتحويلية ومصانع للإنتاج الزراعي والحيواني، وخطوط انابيب لنقل المشتقات النفطية لمحطات الوقود في المدن الرئيسية. تلك المشاريع تحقق بعضها وتعثرت البقية بعد وفاته. وهي مشاريع كانت سابقة لأوانها آنذاك في اليمن والمنطقة برمتها.
ولعل الطريقة التي أدار بها بناء الدولة وأشرك فيها المجتمع، سارعت بقيام التنمية في وقت قياسي لم يتعدى 3 سنوات و4 أشهر. انتهج خلالها الرجل سياسة الباب المفتوح، ونجح في جذب عشرات الاستثمارات آنذاك، وتوقيع اتفاقيات لمشاريع نوعية –لم يتم استكمالها بعد وفاته-كانت ستشكل بمقياس اليوم حلاً لمشاكل اليمن في ظل الاختناقات الاقتصادية.
إذا كان الاقتصاد هو الحل، فإن السياسة هي المشكلة. هذه هي الحقيقة التي يمكن التقاطها من تلك الحقبة. فالتدخل السياسي في أمور الاقتصاد هو الذي تسبب بتأخير النمو بدلاً من تحفيزه. ذلك أن نمو الاقتصاد اليمني يتوقف على حل الازمات السياسية في البلاد وليس على ترحيلها. في حين أن استمرار تنامي الصراع السياسي -أدى ويؤدي-بالضرورة للكثير من المشاكل الاقتصادية التي تعيق اليمن في الوقت الراهن. ولا يمكن ايضاً تحقيق النمو إلا بوجود ادارة حكومية فعالة ونزيهة، تدير القطاعات الاقتصادية الانتاجية بكفاءة. وتخلق الفرص امام القطاعات الواعدة.
هذا بالضبط، ما حذرنا منه الخبير الأميركي بالاقتصاد السياسي لليمن، تشارلز شميتز، وقبل 3 سنوات، كتب شميتز: "مشاكل اليمن الاقتصادية حقيقية، لكنها ليست ناجمة عن نقص مطلق لا يمكن ترميمه في الموارد، بل هي حصيلة السياسات اليمنية المثيرة للجدل والمفتقرة إلى التنمية المؤسسية. هذه السياسات هي التي تشكّل العقبة الرئيسية أمام التغلب على الصعوبات الاقتصادية الراهنة".
المحبط اليوم، أن الاقتصاد اليمني ظل خارج أجندة السياسة ولخدمتها، ما جعل اليمن غارقا في الركود لعقود، وما فاقم المشكلة أكثر هو نمو اقتصادات سرية لنافذين، تدار من وراء الدولة وبأدواتها.
فاحتكار مراكز القوى "القبلية والعائلية" لمصادر الثروات وادارة الخدمات وتوريد السلع، مكنها من توجيه عملية التنمية الرسمية وتحديد أولوياتها. وبالطبع، ليس بمقدور الصحافة لوحدها ردع ذلك، لكنها تستطيع ايصال صوت مهم.
ليس بمقدور القيادة السياسية الحالية، وأي حكومة قادمة، النجاح في تحسين حظوظ اليمنيين بشكل ملموس. طالما ابقت اصلاح الاقتصاد بمعزل عن حل إخفاقات السياسة. وطالما تجاهلت إعادة النظر في المشاريع المتعثرة منذ عقود، والتي يمكن لها حل الكثير من المشاكل الراهنة.
لقد سأم الناس من الشعور الدائم بالإحباط، وطيلة -العقود والسنوات-الثلاثة المنصرمة؛ أفسد حياة اليمنيين شبكة من الانتهازيين، وصلوا السلطة وحققوا باسم المصلحة العامة، مصالح شخصية، على حساب حلم اليمنيين الكبير بدولة تهبهم حياة كريمة وعادلة؛ دولة أراد لها رئيس واحد أن تحيا، بيد أنه ترجَـل عنها –قسراً- في لحظات لم يفهمها اليمنيين حتى الآن.
ــــــــــــــــــــــــــ

* من مقالي المنشور في مجلة "الاقتصاد الآن". العدد 1. مارس 2015.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق