التسميات

01 أغسطس 2018

أزمة السلطة النقدية في اليمن

تدهورت قيمة الريال أمام الدولار الى الضعف خلال عام 2018.

* محمد الحكيمي
لا شيء واضح في السياسة النقدية التي ينتهجها البنك المركزي اليمني غير انهيار الريال وحسب. ففي منتصف يونيو 2017، لجأت إدارة البنك المركزي اليمني في عدن، لإصدار فئة نقدية جديدة لورقة 500 ريال، وبدت مختلفة عن تلك السائدة في السوق. كانت قيمة الريال حينها تساوي 250 ريال للدولار الواحد بالسعر الرسمي. وبعد شهر ونيف فقط انخفضت قيمة الريال إلى 370 ريالا/للدولار الواحد.

تكرر الأمر مجدداً في فبراير 2018، بإصدار ورقة نقدية جديدة لفئة 1000 ريال، تختلف بمواصفاتها عن الألف ريال المتداولة في السوق. وجاء هذا الاجراء في ظل انقسام الجهاز المصرفي اليمني. وقد قوبل بالرفض من قبل البنك المركزي بصنعاء، إذ رفض الأخير تداول الفئات الجديدة، وشدد على منع تداولها في تعاملات البنوك والصرافة والمرافق الرسمية، مقابل الاستمرار بالأوراق النقدية السابقة وسط أزمة سيولة حادة. وعقب ذلك تدهورت قيمة الريال إلى 475 ريال/للدولار، لتتخطى قيمته اليوم حاجز 510 ريال/للدولار، برغم ضخ 180 مليار ريال من الفئة الجديدة من مركزي عدن في السوق طيلة الأسابيع الماضية.

لكن هذا ليس كل شيء. فالبنك المركزي في عدن، يسعى حالياً لطباعة تريليون ريال (أي 5 مليارات دولار) من النقود الجديدة خلال العام 2018. برغم انه قام بطباعة 400 مليار ريال من فئة الألف القديمة في 2016. والتي حلت الجديدة محلها.

كل هذا التسارع لا يضع أمامنا غير سياسة عبثية: إعادة طباعة كميات قديمة، وإصدار نقود جديدة في آن واحد. ما يدفعنا للتساؤل: هل ثمة جدوى للإصدارات النقدية الجديدة في ظل انقسام عمليات البنك المركزي بين صنعاء وعدن؟ وهل هذا الاجراء يخدم السياسة النقدية؟

الإجابة هي لا. فهذه الإجراءات في الظرف الراهن، تعكس حالة من التخبط في إدارة السياسة النقدية في البلاد، أكثر من كونها خطوة لتفادي أزمة السيولة الحادة، كما يراها البنك. فقرار إصدار فئة نقدية جديدة الآن في اليمن، لا يتطابق مع الاعتبارات المتعارف عليها.

الاعتبار الاول: يأتي لأجل تحفيز النمو في ظل وجود استقرار سياسي واقتصادي، ولأجل استقرار قيمة العملة تقوم الحكومات بضخ سيولة تتناسب مع حجم الاقتصاد وحجم النمو. وهنا تلجأ الحكومات إلى اصدار نقود جديدة أمام الناس، كي "تقوم هذه النقود بتحفيز الطلب على السلع والخدمات، وبالتالي استجابة المنتجين لزيادة المعروض من هذه السلع". الأمر الذي يقود لحالة إنعاش اقتصادي.
أما الاعتبار الثاني: تلجأ فيه الحكومات إلى "التمويل بالعجز" عبر إصدار كميات نقود إضافية من أجل تغطية النفقات العامة للدولة، حين لا يتوافر للدولة إيرادات ومصادر كافية لتغطية نفقاتها العامة، فتلجأ حينها لطباعة عملة جديدة من أجل تمويل نفقاتها.

استناداً الى الاعتبارين السابقين، يبدو الحال في اليمن بعيد كلياً، فمع اندلاع الحرب في مارس 2015، دخلت البلد في دوامة من الانقسام والتشظي في سلطاتها ومواردها وفي مؤسساتها العامة. تلاشى النمو تماما وفقدت الثقة بمستقبل الاقتصاد الوطني، لدرجة أن البلد صارت تدار عبر حكومتين وبنكين: في صنعاء، وفي عدن (بغض النظر عن الشرعية السياسية) ولعل الطرفين لم يعلنان عن أية موازنة عامة منذ 3 سنوات. وبالتالي لا يمكن الحديث عن عجز، في ظل عدم وجود موازنة معلنة؛ فمعظم المرافق والخدمات متوقفة وبلا نفقات تشغيلية. وغالبية الموظفين بلا رواتب حكومية. لذلك لا شيء معلن رسمياً غير استمرار المعارك واتساع رقعة الأزمة الانسانية المتفاقمة.

موازنة يمنية منقسمة
الجميع يعرف، أن آخر موازنة يمنية حكومية أقرها البرلمان وصدرت بقانون كانت هي: الموازنة العامة للدولة لسنة 2014. وفي يناير 2015 تم تمديد العمل بموازنة السنة القديمة 2014 استناداً للمادة 88 من الدستور اليمني، نتيجة تعذر إقرار موازنة العام 2015 آنذاك، بسبب اجتياح الحوثيين للعاصمة صنعاء، وما اعقبه من "اتفاق السلم والشراكة" وتشكيل حكومة جديدة برئاسة خالد بحاح. والتي اضطرت حينها للعمل بموازنة 2014، حتى اندلاع الحرب. ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم، لم تعلن حكومة "الشرعية" موازنة عامة للدولة وفقاً للأحكام القانونية لدورة الموازنة، لذا يصعب القول إنها -لجأت لسد عجزها- عبر إصدار نقود جديدة.

صحيح ان حكومة "بن دغر" أعلنت مطلع السنة عن اعتماد موازنة للعام 2018، والتي سمتها موازنة تقشفية، بنفقات رصدت بقيمة 5.86 مليار دولار وعجز بنسبة 33%. لكن هذه الموازنة -وبالمعيار الاداري والمالي- كانت شكلية فقط أمام الصحافة. كونها بلا بيانات أو بنود تفصيلية، وبلا نفقات استثمارية أو جارية، ولم تشمل كافة أجور ورواتب موظفي الدولة (شملت بعضهم فقط). والاهم من ذلك: أن موازنة "بن دغر" لم يجري اقرارها من قبل السلطة التشريعية ولم يرفع بها مشروع قانون من البرلمان، ولا حتى قرار جمهوري من رئيس الدولة كما هو متعارف قانونياً. لذلك أظهر إعلان هذه الموازنة صورة سيئة لحكومة لا تحترم الدستور والقانون.

إن اصدار فئة نقدية جديدة في ظل الظرف الراهن في اليمن، لا يتطابق مع الاعتبارات المالية والظروف الاقتصادية، في حين أن استحداث نقود جديدة في ظل الأزمة بين طرفي الصراع، ستزيد من انقسام التعاملات المالية بين شمال البلد وجنوبها وهو ما يحدث الآن. ففي صنعاء يجري التشديد على التعامل بالفئات النقدية القديمة ومنع الإصدارات الجديدة، وفي عدن يجري التداول بالفئات الجديدة وسحب القديمة. والنتيجة أن أكثر مناطق الكثافة السكانية والتعاملات التجارية في الشمال لا يجري فيها الإقبال على النقود الجديدة أو امتصاصها، فالمقرات الرئيسة للبنوك والمصارف التجارية التي تتواجد في صنعاء، ممنوعة هي وعملائها من تداول الفئة الجديدة. وكذلك شركات الصرافة والدوائر الرسمية. ما يعني أن تداولها يظل محدود في مدن الجنوب.

إضعاف قيمة العملة
إلى ذلك، تتجسد مخاطر من طبع نقود جديدة أكثر من حجم الحاجة إليها في إضعاف قيمة العملة الوطنية، وتنامي عدم الثقة بالريال اليمني في السوق، فأصحاب الأعمال ورؤوس الأموال، صاروا يلجؤون بكثرة لتعزيز التعامل بالعملات الاجنبية وادخارها أكثر من العملة المحلية المنقسمة التداول في البلاد.

الكارثة أن أكثر المتضررين هم الطبقة الوسطى: الموظفون، ومحدودي الدخل، وأصحاب الدخول الثابتة، والمهنيين، وأصحاب الدخول البطيئة الحركة. الأمر الذي يقود لضرر اجتماعي واسع، لكون اغلبية الموظفين بلا رواتب، فضلاً عن تدني هذه الرواتب وعدم قدرتها على مواجهة ارتفاع الأسعار، وتحمل تكاليف المعيشة.

وفي بلد كاليمن لا يتمتع بجهاز إنتاج قوي ويفتقد للاستقرار. ستبرز مشاكل تعيق الإنتاج، فمعظم موارد البلد المحدودة معطلة بسبب الحرب. وفي ظل ذلك يبقى تعثر الإيرادات الضريبية للدولة مستمر، وسط تعثر إنتاج النفط الخام وصعوبة تصديره على نحو مستقر، بالإضافة لتوقف حالة التشغيل الكامل في البلاد. ذلك يعني ارتفاع تكاليف الإنتاج المحلي على نحو باهض جداً، ما سيدفع المنتجين للعزوف عن الإنتاج، وثمة عدد من المصانع فعلت ذلك، والنتيجة هي زيادة أكبر لمستوى الأسعار، أو التضخم الذي يعود عبئه على كل من يحمل النقود.

ويبدو الواضح ان السلطة النقدية في عدن أخفقت في تحقيق التوازن ما بين العرض والطلب على النقود. هذا التوازن يتحقق عبر تجنب زيادة النقد لتفادي ارتفاع معدل التضخم وأيضاً تفادي نقص النقود.
إن السياسة النقدية التي ينتهجها البنك المركزي اليمني هي التي قادت الريال لأدنى مستوياته؛ كونها ماتزال منفردة القرار لصالح محافظ البنك المركزي؛ ولعل سبب المشكلة هو أن قانون البنك المركزي اليمني يخول لقيادة البنك استقلالية تامة في رسم السياسة النقدية، في ظل عدم وجود مجلس أعلى للنقد كبقية دول العالم، فالسياسة النقدية هي أمن قومي للبلد في المقام الأول.

في النهاية، أضحت السياسة النقدية للبلد أشبه بثمن ينبغي دفعه، لكن اختيار من سيقوم بدفع هذا الثمن، هو قرار سياسي محظ قبل كل شيء. وما هو واضح أن من يديرون زمام الأمور قرروا أن يتحمل اليمنيين المنهكين دفع هذا الثمن. وهو ثمن فادح للغاية.
ــــــــــــــــــــ
* نشرت المادة في موقع "العربي الجديد".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق