التسميات

22 فبراير 2012

الشاب الذي سبق الموت إلى الحياة

صورة الشهيد مازن البذيجي في مسيرة جنازته بتعز | الصورة: شبكة ثورة البن

* محمد الحكيمي
في ظهيرة 18 فبراير 2011، وصل الشاب مازن البذيجي، ساحة الحرية بمحافظة تعز جنوب غرب اليمن، أدى صلاة الجمعة فيها، وأضطر العودة إلى البيت لإيصال والدته إلى بيت خاله، بيد أن رغبته العودة إلى الساحة، كانت كبيرة للغاية في هذا اليوم.

عاد الشاب للبيت، ليستعجل والدته بالخروج، كي لا يتأخر عن أداء مهمة أوكلت إليه، في ساحة الحرية بتعز، وفي أقل من ساعة، عاد إلى الساحة، والحماس يرافقه نحو موعد أثير مع الفداء.

ولد مازن سعيد عبده محمد البذيجي، في قرية " الزوق " التابعة لعزلة "البذيجة" في مديرية الشمايتين بمحافظة تعز العام 1985، ومن أسرة ريفية فقيرة، كان مازن الأول لأبويه، وهو شاب نظر الوجه، يسكنه الهدوء، وذو قلب ممتلئ بالسلام.
تلقى البذيجي تعليمه الأساسي في مدرسة "الإنقاذ" الابتدائية في قرية "الزوق" بتفوق، واصل تعليمه حتى الصف الثاني الإعدادي، في معهد أبي هريرة العلمي في عزلة "بني محمد".
لم يكن البذيجي يدرك أن الفقر سيحرمه من إكمال تعليمه، حتى اضطر ترك مقعده في الصف، والانصراف عن زملائه في المعهد، ذلك أن ضآلة العيش ألقت على كاهله الشعور بالمسئولية في سن مبكرة.
لم تكن الخيارات جيدة أمام صبي، أجـُبـر على ترك تعليمه، والبحث عن فرصة ممكنة لتوفير مصدر دخل لإعالة أسرته.
لم يعثر البذيجي على فرصة شاغرة، غير العمل الشاق الذي لا يتناسب مع بنية جسده النحيل، وحين غادر قريته إلى تعز، وجد طوابير العاطلين الذين تخرجوا من الجامعات، يقفون بلا وظائف، بيد أنه لم يصب بالإحباط، ولم تهزمه المقارنات.
بمشقة كبيرة، عثر مازن البذيجي على وظيفة عامل بناء. ولم يتردد في خوض معركة مضنية مع العيش ..عمل بجهد وإخلاص، وتفانى في عمله، لدرجة اضطراره العمل ليلاً على حراسة المباني التي يعمل فيها طيلة النهار، كان ذلك يحسن من فرص إعالة عائلته.
منذ صغره، خاض مازن علاقة شغف مع الحياة، وراح يفتش في ممراتها عن طريقه الشخصي، وأختار الالتزام لقضايا طرقت أشياء تخصه، ليجد ذاته تعبر مع رفاقه في مشروع جمعي. كانت روحه، بسيطة بعمق وعميقة ببساطة.
حين وصل مازن البذيجي إلى الساحة في تلك الجمعة، في الثانية والنصف بعد الظهر، وقف أمام جدار احد منافذ الساحة. عند ذلك الجدار، كان ثلة من الشباب يحرسون ثورتهم، وبالمقابل كان نظام الرئيس المخلوع "علي عبد الله صالح" يستخدم كل شيء لكسر الثورة.
لم يخطر ببال مازن، في تلك اللحظة التفكير بمنجزه الشخصي، ولم يختبر الشجاعة التي يحتفظ بها قلبه، دون أن يعلم.
كانت ساحة الحرية يومها، تكتظ بحشود الثوار المعتصمين بسلمية. وفي الثالثة عصراً من جمعة 18 فبراير، وصلت سيارة مسرعة إلى أحد مداخل الساحة، والذي كان مازن يحميه بعينيه وعصا خشبية.
وبوحشية، ألقى من في السيارة بقنبلة يدوية داخل الساحة المزدحمة بالآلاف، وقبل أن ينتبه الجميع قفز مازن البذيجي وعينيه صوب القنبلة التي ألقيت في الهواء.
بدفعة واحدة، حركت الشجاعة جسد مازن، واندفع بسرعة محاولاً إبعاد القنبلة بيديه، قبل سقوطها فوق عشرات الثوار الذين كانوا جالسين على الأرض.
كان مازن يفكر بإنقاذ الناس، وهو يتجه دون تردد لالتقاط القنبلة. وعلى مسافة فاصلة من الموت، انفجرت القنبلة عليه فور أن امسكها بيديه. انفجرت في فضاء اختار مازن البذيجي ملئه بروحه.
سقط مازن البذيجي في الساحة التي لم يطأ الشهداء أرضها من قبل، أصابته شظايا الانفجار مباشرة في الرأس، وبحسب شهود عيان شهدوا الحادثة: خرجت عينه اليسرى من مكانها، وامتلأت عينه اليمنى بالشظايا، وتشوهت رقبته وخديه، وبعض أطراف جسده.
فور الانفجار، فرت السيارة التي ألقت القنبلة، والتي تبين أنها مملوكة لأحد القياديين في الحزب الحاكم، في حين تحدثت مصادر بأن أحد أقرباء محافظ محافظة تعز السابق، حمود الصوفي، شوهد وهو يرمي القنبلة. وهي اليوم، ككل المجازر التي راح ضحيتها أكثر من 2000 شهيد من شهداء الثورة السلمية في الساحات، دون معاقبة مرتكبيها.
في تلك اللحظة الفاصلة من حياة البذيجي، تعرفت ساحة الحرية وتعرفت تعز هي الأخرى على أول شهيد من شهداء الثورة الذين لا مثيل لهم في التاريخ.
وللمرة الأولى منذ اندلاع الثورة السلمية في المدينة، توحدت الحشود في ساحة الحرية كلها، بقلب واحد، وشعور واحد، وهي تود معرفة هذا البطل الذي اختطف الموت، وقايض الحياة بجسده.
ما هو مؤلم، أن مازن البذيجي ظل مجهول الهوية، ومن دون اسم حين أسعف لمستشفى "الصفوة" في الساحة، ولم يستطع أحد التعرف على ملامحه، وحين علمت أمه بالحادثة، أحست أن قلبها قد أصيب بأذى، برغم أن من سألتهم أكدوا أن ابنها ليس من بين المصابين في المستشفى.
ويقول أحد المتواجدين يومها، أن "كثيرين أكدوا لـ"أم مازن" مراراً إنهم لم يجدوا أسم ابنها بين المتضررين من رمي القنبلة".
بعد 3 أيام من الحادثة، قررت "أم مازن" الذهاب للمستشفى، كون ابنها لم يعد للمنزل من يوم الجمعة.
وقبل وصولها لغرفة العناية المركزة، بخمس دقائق فقط، فارق الشهيد مازن البذيجي الحياة، في الساعة الثامنة من مساء الأحد 20 من فبراير 2011. بعد أن ظل ميت سريرياً طيلة اليومين الماضيين.

هناك تعليق واحد: